مسألة الشعر الحديث
بقلم: د. طه حسين
..........................
مسألة الشعر الحديث يكثر فيها الكلام ويتصل فيها الأخذ والرد دون أن ترى من هذا الشعر الحديث شيئاً يفرض نفسه على الأدباء فرضاً، بل دون أن ترى منه شيئاً ذا طائل.
وأنا أعلم أن من الشباب طائفة يروْن لأنفسهم الحق في أن ينحرفوا عن مناهج الشعر القديم وعن أوزانه وقوافيه خاصة، ولستُ أجادلهم فيه فأوزان الشعر القديم وقوافيه لم تتنزّل من السماء، وليس ما يمنع الناس أن ينحرفوا عنها انحرافاً قليلاً أو كثيراً أو كاملاً، ولكن للشعر ـ قديماً كان أو حديثاً ـ أُُسساً يجب أن تُراعَى، وخصائص يجب أن تتحقق، فليس يكفي أن يُنشئ الإنسان كلاماً على أي نحو من أنحاء القول ثم يزعم لنا أنه قد أنشأ شعراً حديثاً، وإنما يجب أن يُحقِّق في هذا الكلام الذي يُنشئه أشياء ليس إلى التجاوزِ عنها سبيل.
فالشعر يجب أن يبهر النفوس والأذواق بما ينشئ فيه الخيالُ من الصور، ويجب أن يسحر الآذان والنفوس معاً بالألفاظ الجميلة التي تمتاز أحياناً بالرصانة والجزالة، وتمتازُ أحياناً أخرى بالرقة واللين، وتمتاز في كل حال بالامتزاج مع ما تؤدِّيه من الصور لتنشئ هذه الموسيقى الساحرة التي لا تنشأ من انسجام الألفاظ فحسب، ولا من التئام الصور فحسب، وإنما تنشأ من هذا الائتلاف العجيب بين الصور في أنفسها وبينها وبين الألفاظ التي تجلوها بحيث لا يستطيع السمع أن ينبو عنها، ولا تستطيع النفس أن تمتنع عليها، ولا يستطيع الذوق إلا أن يذعن لها ويطمئن إليها، ويجد فيها من الراحة والبهجة ما يُرضيه.
فإذا استطاع الذين يُحبون الشعر الحديث أن يقدموا إلينا منه ما يُمتعُنا حقا فمن الحًمق أن ننكرَهُ، أو نلتوي عنه لا لشيْءٍ إلا لأنه لم يلتزم ما كان القدماء يلتزمون من الأوزان والقوافي.
وابتكار الشعر الحديث والافتتان في هذا الابتكار ليس شيئاً يمتاز به شعراء العرب المعاصرون عن الأمم الأخرى، وإنما هو شيء قد سبق إليه شعراء الغرب منذ وقت طويل، فشعراؤنا حين يجددون لا يبتكرون، وإنما يُقلِّدون قوماً سبقوهم، وليس عليهم بأس إذا أجادوا وأحسنوا وعرفوا كيف يبلغون من نفوس معاصريهم ما بلغ شعراء الغرب من نفوس الغربيين، على ما يكون بين الغربيين من اختلاف اللغات وتباعد الأذواق، بل ليس شبابنا من العرب المعاصرين حين ينشئون شعرهم الحديث مبتكرين بالقياس إلى الشعراء القدماء من العرب. فما أكثر ما تطوّرت أوزان الشعر العربي القديم وقوافيه. والدارسون للأدب العربي يعلمون حق العلم أن الشعر العربي لم يكد يعيش نصف قرن بعد ظهور الإسلام حتى أخذت أوزانه تخضع لألوان من التطور؛ دخلت عليه الموسيقى التي جاءت بها الشعوب المغلوبة، ودخلت عليه حضارة جديدة لم يألفها الشعراء العرب الجاهليون، فتغيّرت النفوس، وتطوّرت الطباع، ورقّت الأذواقُ وصَفَتْ.
ولم يكن للشعر بد من أن يتأثَّر بهذا كله ويُصبح ملائماً للحضارة الجديدة، وما أنشأت من طباع جديدة وأذواق جديدة أيضاً، وقصرت أوزان الشعر وخفَّت لتكون ملائمة للتوقيع الموسيقي الحديث. وظهر ذلك التطور أول ما ظهر في الحجاز وفي المدينتين المقدستين بنوع خاص، وكان الحجاز جديراً أن يكون قلعة المحافظة في الأدب العربي، ولكنه كان السابق إلى تطوير الشعر، لأنه كان السابق إلى الترف، والسابق إلى الموسيقى، والسابق إلى الغناء، والسابق بحكم ذلك كله إلى تطوير الشعر بترقيق ألفاظه وتقصير أوزانه وتحضير صوره. ولا أذكر ما طرأ في العراق في ألوان التطور الذي عرض للأدب كله شعره ونثره منذ منتصف القرن الثاني للهجرة. وأما ما طرأ على الشعر في الأندلس فهو أظهر وأشهر وأقرب إلى أوساط المثقفين من أن أحتاج إلى الوقوف عنده.
فليتوكل شبابنا من الشعراء على الله، ولينشئوا لنا شعراً حرا أو مُقيَّداً، جديداً أو حديثاً، وليكن هذا الشعر شائقاً رائعاً، ويومئذ لن يروْا منا إلا تشجيعاً أي تشجيع، وترحيباً أيَّ ترحيب ودفاعاً عنهم إن احتاجوا إلى الدفاع.
...............................
(مجلة الأديب، عدد مايو 1960م، ص56)