منتديات سهير الليل
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


نحن لانسعى إلى القمة بل القمة تسعى إلينا
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 البيان لمصطفى لطفي المنفلوطي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الساهر
سهـــ فـــــ ع ـــــال ـــــــــــير
سهـــ فـــــ ع ـــــال ـــــــــــير
الساهر


ذكر عدد الرسائل : 96
البلد : اليمن- حضرموت
المزاج : جاد وودود
تاريخ التسجيل : 19/12/2008

البيان لمصطفى لطفي المنفلوطي Empty
مُساهمةموضوع: البيان لمصطفى لطفي المنفلوطي   البيان لمصطفى لطفي المنفلوطي Empty20/12/2008, 3:27 am

البيــــــــــــــــان

بقلم: لمصطفى لطفي المنفلوطي*
.......................................

أَعرفُ أدِيباً من أَفْضلِ الأُدباءِ في هذا البَلَدِ المضْطَلِعينَ باللُّغَةِ وفُنُونِها, الحافِظِينَ للْكَثيرِ المُمْتِع من منْظومِها ومَنْثُورِها, إلاَّ أَنَّهُ لا يَكْتُبُ كلمةًً في صَحِيفةٍ, ولا يَنْشُرُ في النَّاس كِتاباً, إلا أَعْجَمَ كَتابَتَه وَأَبْهَمَها, وتَعَمَّلَ فيها تعمُّلاً يأْخُذُ على القارئِ عَقْلَهُ وفَهْمَهُ, فلا يَدْرِي أيَّ سبيلٍ يَأخُذُ بَيْنَ مسالِكِها وشِعابها, وكُنْتُ أَحْسَبُها غَرِيزةً من غرائِزِهِ الغالِبَةِ عَلَيْهِ, الآخِذَةِ من نَفْسِهِ مَأْخَذَ الطَّبيعَةِ الثابِتَةِ والمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ, فلا سَبيلَ لَهُ إلى التَّخَلُّصِ مِنْها, وَالنُّزُوع عَنْها, حَتَّى اطَّلَعْتُ له عِنْدَ بَعْضِ أصْدِقائِهِ على كتابٍ صغير كانَ قَدْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ في بَعْضِ الشُّؤونِ الخاصَّةِ وَكَتَبَهُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ السَّهْلَةِ البسيطَةِ التي يُسَمُّونَها اللُّغَةَ العامِّيَّةَ, فَأُعْجِبْتُ بأُسْلُوبِهِ في كِتابِهِ هذا إعجاباً كَثِيراً, ورَأَيْتُ أَنَّهُ أَبْلَغُ ما قَرَأْتُ لَهُ في حياتي مِنْ كُتُبٍ وَرَسائلَ, وعَلِمْتُ أنَّ الرَّجُلَ فصيحٌ بفِطْرَتِهِ, قادرٌ على الإبانَةِ عن أَغْراضِهِ ومراميهِ, كأَفْضَلِ ما يَتَقَدَّرُ مُتَقَدِّرٌ على ذَلِكَ, إلا أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ الرِّكَّةَ والتّعْقيدَ في كتابَتِهِ تكلُّفاً, ويأْخُذُ نَفْسَهُ أَخْذاً, وَلَوْ أَنَّهُ أَرْسَلَ نَفْسَهُ على سَجِيَّتِها, فَكَتَبَ جَميعَ رسائِلِهِ ومؤلّفاتِهِ بتلك اللُّغِةِ الجميلَةِ العَذْبَةِ التي كَتَبَ بها هذا لَكانَ مِنْ أَعْظَمِ الكُتّابِ شأْناً, وَأرْفعهم صَوْتاً في عالم الكتابَةِ والأَدَب, وَلكن هَكَذا قُدِّرَ له أَنْ يَقْضِيَ بِنَفْسِهِ على نَفْسِهِ.
وقرأتُ منْذُ أَيَّام لأحَدِ الشُّعراءِ المُتَكلِّفينَ ديوانَ شِعْرٍ, فلْمْ أَفْهَمْ منْهُ غَيْرَ خُطْبَتِهِ النَّثْريَّةِ ولَمْ يُعْجِبْني فيه سِواها, وما أَحْسَبُها أَفْلَتَتْ من يَدِهِ, ولا جاءَتْ على هَذِهِ الصُّورَةِ من الجُودَةِ والحُسْنِ إلاّ لأَنَّهُ أَغْفَلَ العنايَةَ بها, والتَّدقيقَ في وَضْعِها, فَأرْسَلَها عَفْوَ الخاطِرِ إرْسالَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّما يُسْأَلُ عن الإجادَةِ في الشِّعْرِ, لا عَنِ البَراعَةِ في النَّثْرِ, وَأَنَّ النَّاس سَيَغْتَفِرونَ لَهُ ضَعْفَ الكاتِبِ, أَمامَ قُوَّةِ الشَّاعِر, غَيْرَ عالِمٍ أَنَّهُ كاتِبٌ مِن أَفْصَحِ الكُتّابِ وَأَبْينِهم, ولو شاءَ لكانَ شاعراً من أَقْدَرِ الشُّعراءِ وَأَفْضَلِهمْ, وَأَنَّهُ ما أَحْسنَ إلا حَيْثُ ظَنَّ الإساءة, ولا أساءَ إِلاّ حَيْثُ ظَنَّ الإحْسانَ.
وَوَاللَّه لا أدري ما الّذِي يَسْتَفِيدُهُ هَؤلاء الأُدباءُ مِنْ سلوكِهِم هذا المَسْلَكَ الوَعِرَ الخَشِنَ في أسالِيبِهمُ الكِتَابيَّة وَالشِّعْريَّة وَتَكَلُّفِ الإغْرابِ وَالتَّعْقِيد فيها, وَهُمْ يَعْلَمونَ أَنَّهُمْ إِنَّما يَكْتُبُونَ لِلنَّاسِ لا لأَنْفُسِهِمْ؛ وَأَنَّ النَّاسَ, خُصوصاً في هذا العَصْرِ, عَصْرِ المَدَنِيَّةِ والعَمَل, وَالحَرَكَةِ والنَّشاطِ, أَضَنُّ بأَنْفُسِهِم وبِأَوْقاتِهِم من أَنْ يَقفُوا الوَقْفاتَ الطِّوالَ أَمامَ بَيْتِ من الشِّعْرِ يعالجونَ فَهْمَهُ, أَوْ سَطْرٍ من النَّثْرِ يُعانونَ كَسْرَ صُخورِ ألفاظِهِ عن معانِيهِ, ولِمَ لا يُؤْثِرُ أَحَدُهُم إِنْ كانَ يَكْتُبُ للمَنْفَعَةِ العامَّةِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ سَوادِ المُنْتَفِعينَ بعِلْمِهِ وفَضْلِهِ, أو لِلشُّهْرَةِ وَالذِّكَرِ أَنْ يَنْتَشِرَ لَهُ ما يُريدُ من ذلك بَيْنَ جميع طَبقات الأُمّةِ, عامَّتِها وخَاصَّتِها, عُلمائِها وجُهلائِها؛ وهل الشِّعْرُ وَالكِتابَةُ إلاّ أَحادِيثَ سائِرةً يُحادِثُ بها الشُّعراءُ والكُتَّابُ النَّاسُ لِيُفْضُوا إلَيْهِمْ بخواطِرِ أَفْكارِهِمْ, وسَوانِح آرائِهِم, وخَلجاتِ نُفُوسِهِمْ؛ وهلْ يَعْنِي المُتَحَدِّثَ في حَدِيثه شيءٌ سِوَى أَنْ يَعِيَ عَنْهُ النَّاسُ ما يقولُ, وأَنْ يَجِدَ بين يَدَيْهِ سامِعاً مُصْغياً, ومُقْبلاً محْتفِلاً؟ وأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ إلى جَمْعٍ مِن أصْدِقائِهِ لِيَقُصَّ عَلَيْهِمْ بَعْضَ القِصَصِ, أوْ يُفْضي إِلَيْهِم بِبَعْضِ الآراءِ فيَتَلَطَّفُ في تَفْهِيمِهِمْ, وَإيصالِ مَعانِيهِ إلى نُفوسِهِمْ, ويَفْتَنُّ في اجْتِذابِ مُيولِهِم وعواطِفِهم؛ وبَيْنَ أنْ يَجْلِسَ إِلى مَكْتَبِهِ لِيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بهذه الأحادِيثِ نِفْسِها منْ طَريق القَلَم؛ وَلَمِ لا يَعْنِيهِ في الأُخْرى ما يَعْنِيه في الأُولى؟
لَيْسَ البيانُ مَيْداناً يَتَبارَى فِيهِ اللُّغَوِيُّونُ وَالحُفَّاظُ أَيُّهُمْ أَكْثَرْ مادَّةً في الُّلغةِ وأَوْسَعٌ اطَّلاعاً على مٌفْرَداتِها وتَراكِيبِها, وأَقْدَرٌ على اسْتِظْهارِ نَوَادِرِها وشَوَاذِّها ومُتَرادِفِها وَمُتَوارِدِها, وَلا مُتْحَفاً لِصُوَرِ الأَسالِيبِ وَأَنْواعِ التَراكِيبِ, وَلا مَخْزَناً لأَحْمالِ المجازاتِ وَالاسْتِعاراتِ, وحقائِبِ الشَّواهِدِ والأمْثالِ؛ فَتِلْكَ أَشْياءُ خارِجَةٌ عن مَوْضُوعِ البَيانِ وَجَوْهَرِهِ, إنَّما يُعْنَى بها المؤُلِّفُون والمُدَوِّنُونَ وَأَصَحابُ القَوامِيس والمَعاجِم ووَاضِعُو كُتُب المترادِفاتِ ومُصَنِّفُو فِقْهِ اللُّغَةِ وتارِيخِ أَدَبِها, أَمَّا البيانُ, فَهُو تَصويرُ المَعْنى القائِم في النَّفْسِ تَصْويراً صَادِقاً يُمَثِّلهُ في ذِهْنِ السَّامِع كأنَّهُ يَراهُ وَيَلْمَسُهُ لا يزيدُ على ذَلِكَ شَيْئاً, فإنْ عَجَزَ الشَّاعِرُ أو الكاتِبُ – مَهْما كَبُرَ عَقْلُهُ وغَزُرَ عِلْمُهُ واحْتَفَلَ ذِهْنُهُ – عن أنْ يَصِلَ بسامِعِهِ إلى هذهِ الغايَةِ , فَهُوَ إنْ شِئْتَ أَعْلَمُ العُلماءِ, أَوْ أَفْضَلُ الفُضَلاءِ, أَوْ أَذْكى الأَذْكياءِ؛ ولَكِنَّهُ لَيْسَ بالشّاعِرِ ولا بِالكاتِبِ.
ما أَشْبَهَ الجمودَ اللُّغَوِيَّ في هذه البِيئَةِ العَرَبِيَّةِ بِالْجُمودِ الدِّينيِّ, وَمَا أَشْبَهَ نَتيجَةَ الأَوَّلِ بِنَتِيجَةِ الآخَرِ.
لَمْ يَزَلْ عُلماءُ الدِّينِ يَتَشَدَّدوُنَ فيهِ ويَتَنَطَّعونَ, وَيَقْتَطِعونَ من هَضْبَتِهِ الشَّمَّاءِ صُخوراً صَمّاءَ يَضَعونَها عَقبةً في سَبيلِ المَدَنيَّةِ وَالحضارَةِ حَتّى صَيَّرُوهُ عِبْئاً ثَقِيلاً على كَواهِلِ النَّاسِ وعَواتِقِهمْ, فَمَلَّهُ الكثيرُ مِنْهُم, وَبَرِمُوا بِهِ, وَأَخَذُوا يَطْلُبُونَ لأَنْفُسِهِمُ الحياةَ الطَّيِّبَةَ من طريقِ غَيْرِ طَرِيقِهِ, ولو أَنَّهُم لانُوا به مَعَ الزَّمانِ وصُرُوفِهِ, وتمشَوْا بأوامِرهِ ونواهِيهِ مع شُؤون المجْتَمَع وَأَحْوَالِهِ, لاسْتطاعَ النَّاسُ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الأَخْذِ بأَسْبابِ دِينهِمْ, وَالأَخْذِ بأسبابِ دُنْياهُمْ.
وَلَمْ يَزَلْ جماعَةُ اللُّغَويِّين وَعَبَدَةُ الألفاظِ والصُّوَرِ يَتَشَدَّدُون في اللُّغَةِ وَيَتَحذْلَقُونَ وَيَتَشَبَّثُونَ بالأساليبِ القَدِيمَةِ وَالتراكيبِ الوَحْشِيَّةِ, وَيُغالونَ في مُحاكاتِها وَاحْتِذائِها, وَيَأْبَوْنَ على النَّاسِ إِلاَّ أَن يَجْمُدُوا مَعَهُم حَيْثُ جَمَدُوا, ويَنْزِلُوا على حُكْمِهم فيما أَرادُوا, وَيُحاسِبُون َالكاتِبِينَ والنّاطِقِينَ حِساباً شَدِيداً على الكَلِمَةِ العَربيَّةِ و المعنى المُبْتَكَرِ, وَيُقِيمونَ المناحاتِ السَّوْداءَ على كُلِّ تَشْبِيهٍ لم تَعْرفْهُ العَرَبُ, وَكُلِ خَيالٍ لم يَمُرَّ بأَذْهانِهِمْ, حَتَّى مَلَّهُمُ النَّاسُ وَمَلُّوا اللُّغَةَ مَعَهُم فَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِم وَخَلَعُوا طاعَتَهُمْ, وطَلَبُوا لأَنْفُسِهِم الحُرِّيَّةَ اللُّغَوِيَّةَ التَّامَّةَ في جمَيعِ مواقِفِهِمْ, وعَلائِقِهِمْ فسَقَطُوا في اللُّغَةِ العامِّيَّةِ في أحاديثِهِمْ وَشِبْهِ العامِّيَّةِ في كِتاباتِهِمْ, وكادَتْ تَنْقَطِعُ الصِّلَةُ بَيِنْ الأُمّةِ وَلُغَتِها, لَوْلا أَنْ تَدارَكَها اللهُ بِرَحْمَتِهِ, فقَيَّضَ لها هذا الفَريقَ العاملَ المستنيرَ من شُعراءِ العَصْرِ وكُتَّابِهِ الَّذِينَ عَرَفُوا سِرَّ البيانِ, وَأَدْرَكُوا كُنْهَهُ, فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهم في مناحِيهم الشِّعْرِيَّةِ والكِتابِيَّةِ أُسْلوباً وَسَطاً مُعْتَدِلاً, جَمَعُوا فِيهِ بَيْنَ المحافَظَةِ على اللُّغَةِ وأَوْضاعِها وَأَسالِيبِها, وبَيْنَ تَمْثيلِ رُوح العَصْرِ وتصوير الحياةِ, وَلَوْلاهُمْ لَبَقِيَتِ اللُّغَةُ في أَيْدِي الجامِدِينَ فماتَتْ, أَوْ غَلَبَتْ عليها العامِّيَّةُ فاسْتحالَتْ.
* * *
قَالَ لي أَحَدُ الأُدباءِ المُتَكَلِّفِينَ في مَعْرِض اعْتِذارٍ عِنْ نَفْسِهِ, وقَدْ عَتَبْتُ عَلَيْهِ في هذا المَنْهَج الخَشِنِ الوَعْرِ الَّذِي يَنْهَجُهُ في أُسْلُوبِهِ: أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ في هذا البَلَدِ قَدْ أَلِفُوا مِنْ طَريقِ خَطِأ الحِسِّ أَنْ يَنْظُرُوا بِعَيْنِ الإجلالِ وَالإعْظامِ إلى كُلِّ أُسْلوبٍ شِعْريِّ أَوْ كِتابيِّ مُعَقَّدٍ غامِضٍ, وإنْ تَفِهَتْ معانِيه, وهانَتْ أَغْراضُهُ؛ وَبعَيْنِ الازْدِراءِ وَالاحْتِقار إلى الأساليبِ السَّهْلَةِ البَسيطَةِ وإِنِ اشْتَمَلَتْ على أَشْرفِ الأَغْراضِ وَأَبْرَعِ المَعاني, أيْ أَنَّهُم لا يَرَونَ السُّهولَةَ والانْسِجامَ حَتَّى يَتَوَهَّمُوا التّفَاهَةَ وَالفُسُولَةِ, ولا يَرَونَ الرَّكاكَةَ وَالمُعاظَلَةَ حَتَّى يَظُنُّوا الحِذْقَ والبَرَاعَةَ وَسُمُوَّ المعانِي وَشَرَفَها, وَهِيَ حالَةٌ طبيعيَّةُ في جَمِيع النُّفُوسِ البَشَريَّةِ أَنْ تَزْدَرِيَ المَبْذُولَ لها, وَتَسْتَسْني قِيمَةَ المَمْنُوعِ عَنْها, وَلَيْسَ هذا شَأْنَهُمْ مَعَ أُدباءِ العَصْرِ الحاضِرِ فَحَسْبُ, بَلْ مع أُدباءِ كُلَّ عَصْرٍ وجيلٍ, فَهُمْ يُسِمُّونَ البُحْترِيَّ وَأبا نُوَاسٍ وَالشَّريفَ الرَّضِيَّ وأمْثالَهُمْ: شُعراءَ الألْفاظِ, وَيُسَمُّونَ المُتَنَبِّي والمَعَرِّيَّ وَابْنَ الرُّوميِّ وَأشْباهَهُم: شُعراءَ المَعانِي؛ وَشَرَفِها إلاَّ أنَّ الأَوَّلِينَ أَمْطَرُوها على النَّاسِ وبَعْثَرُوها تَحْتَ أَقْدامِهِم فهانَتْ عليهم, وضَنَّ بها الآخَرُونَ ووَعَّرُوا سَبيلَها, فعَظُمَتْ في أَعْيُنِهِمْ, وجَلَّتْ في صُدُورهِم. قالَ: وَلَقَدْ عَرَضْتُ السِّلْعَتَيْن في سُوقِ الأَدَبِ, فكَتَبْتُ أَتْفَهَ المعاني وَأَدْوَنَها في أخْشَنِ الأساليب وَأَوْعَرِها فَنَفَقَتْ في تلك السوق نَفَاقاً عَظِيماً, وَكَثُرَ المعْجَبونَ بها والمُكْبرونَ لها؛ وكَتَبْتُ أَشْرَفَ المعانِي وأَبْرَعَها في أَلْطَفِ الأَساليبِ وَأَعْذَبِها فما أَبَهَ لها إِلاَّ القَلِيلُ مِنَ النَّاس, وَرُبَّما لم يَأْبَهْ لها أَحَدٌ؛ فَلَمْ أَرَ بُدّاً مِنْ أَنْ أَنْتَهِجَ لِنَفْسِي في الكتابَةِ الخِطَّةَ الَّتِي أَعْلَمُ أَنَّها أَجْدَرُ بي وَأَجْدَى عَلَيَّ.
فعجبْتُ لِرَأيِهِ عَجَباً شَدِيداً, وَقُلتُ لَهُ: أَمَّا هَذاَ الَّذِي تَذْكُرُهُ فَإني لا أَعْرِفُه إلاّ لِفِئَةٍ قَلِيلَةٍ من القُرَّاءِ, فاسِدَةِ الذَّوْقِ, لا يَعْبَأ بها عابِئٌ, وَلَيْسَ هذا رَأْيُ جُمْهورِ المُتَأدِّبينَ, بَل ولا رَأْيُ العامِّةِ مِنْ أبْناءِ هذه اللُّغَةِ, وَهَبْ أَنَّ الأَمْرَ كما تَقُولُ, فَالأَدَبُ لَيْسَ سِلْعةً مِنَ السِّلَعِ التِّجارِيَّةِ لا هَمَّ لصاحِبِها سِوَى أنْ يَحْتَالَ لنَفَاقِها في سُوقِها, إنَّما الأَدَبُ فَنٌ شَرِيفٌ, يَجِبُ أنْ يُخْلِصَ له المُتَأَدِّبُونَ – بأَداءِ حَقَّهِ وَالقِيام على خِدْمَتِهِ – إخلاصَ غَيْرِهمْ من المشْتَغِلينَ بِبَقيَّةِ الفُنونِ لِفُنُونِهم, وَالأدباءُ هُمْ قادَةُ الجماهِيرِ وزُعماؤُهُمْ, فلا يِجْمُلُ بِهِمْ أنْ يَنْقَادُوا للجماهِيرِ ويَنْزلُوا على حُكْمِهِمْ في جهالَتِهِمْ وفَسادِ تصوّراتِهِمْ؛ ولَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أذْعَنَ للرَّأيِ الَّذي رَأَيْتُهُ لَهُ, فحَمِدْتُ اللهَ على ذَلِكَ.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
البيان لمصطفى لطفي المنفلوطي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات سهير الليل :: سهــــــــــ الثقافة والأدب ـــــــــــــــير :: سهـــــــــ الخواطر ـــــــــــــــــــــــير-
انتقل الى: